تخطى إلى المحتوى

الوقود الأول في التحول الى الطاقة النظيفة

ربما خطر ببالكم أنها الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح في بعض المناطق، أو ربما سأقول إنها تختلف باختلاف المنطقة والمناخ، كل ما سبق خطأ!

مصدر الطاقة النظيفة الأول والأرخص والأكثر استدامة هو كفاءة استخدام الطاقة المتاحة فعليًا.

يتجه التفكير عند ذكر كفاءة الطاقة إلى استخدام أجهزة أكثر كفاءة أو العزل الحراري للمباني أو حتى الاتجاه إلى وسائل النقل الأكثر كفاءة وتحديث معدات المصانع، كل هذا جميل ويؤدي إلى رفع كفاءة الطاقة بمعدل كبير جدًا، ولكن ما أود الإشارة إليه في هذا المقال هو اتجاه آخر مختلف.

أود في هذا المقال تسليط الضوء على ثقافة وسلوك استهلاك الطاقة، وسأبدأ بقصة رواها لنا أستاذنا عندما كان مبتعثًا لدراسة الدكتوراه في ألمانيا وكان في سكن الطلاب. تفاجأ بأن فاتورة الكهرباء عالية جدًا، وعندما استعان بجاره الألماني ودخل معه إلى سكنه قال له: ما هذه الملابس الخفيفة التي ترتديها؟ عليك أن ترتدي ثيابًا أثقل لتخفض من استهلاك المدفأة، فلا يمكن أن ترتدي ملابس خفيفة وتكيّف كل الغرفة على الحرارة المناسبة لك. ثم وجد عنده وعاء (تنكة) لإعداد القهوة صغيرة بالنسبة لحجم السخان الكهربائي، فقال له: أنت تهدر الكهرباء، ينبغي أن يكون الوعاء بنفس حجم السخان أو أكبر حتى تستفيد من كل الحرارة الخارجة من السخان. أخبرنا أستاذنا أنه بعد أن بدأ يراقب سلوكه انخفضت فاتورة الكهرباء ووصلت إلى معدل معقول.

مهما أوجدنا من أجهزة ذات كفاءة عالية، سيظل سلوكنا تجاه استهلاك الكهرباء هو الطريقة الأكثر فعالية لتوفير الطاقة. نشر ثقافة تقليل الاستهلاك والتفكير في الحل الأوفر للطاقة في كل خياراتنا الحياتية هو ما سيؤدي إلى تنعّمنا بالطاقة لوقت أطول وكفاءة أقل.

لا يعني تغيّر ثقافتنا في استهلاك الطاقة أننا سنكون محرومين أو سنعاني من التقتير، بل فقط الاستهلاك بوعي من أجل الحفاظ على هذا المورد الهام في حياتنا.

أسهل طريقة لخفض استهلاك الطاقة وترشيد استخدامها هي رفع سعر الطاقة كما في مثال أستاذنا، ولكن هذا الحل ربما يضر الفئات الضعيفة في المجتمع ويؤثر على مستوى المعيشة لديها. أما في حالة أننا رفعنا الوعي بأهمية استهلاك الطاقة بشكل فيه مسؤولية وحفاظ على الطاقة، فإن النتائج ستكون مرضية ولن يكون لها آثار جانبية على الفئات الضعيفة في المجتمع.

سلوك بسيط مثل إطفاء النور في الغرفة الخالية، فصل الكهرباء عن الأجهزة في حال عدم استخدامها (حتى لو كانت مغلقة)، عدم طلب المصعدين في آن واحد لأنك لن تركب سوى مصعد واحد، أو ما يفعله أبناؤنا الذين يشغلون التكييف ثم يتغطون باللحاف، أو إغلاق النوافذ بالستائر الثقيلة ثم الاعتماد على الضوء الصناعي لإضاءة المكان. هذه تفاصيل كثيرة صغيرة تشكل في مجموعها سلوكنا العام تجاه استهلاك الكهرباء.

من أكثر الأجهزة التي تستهلك الطاقة حاليًا هي أجهزة تكييف الهواء. يمكن أن نقلل استهلاك الطاقة فيها عن طريق تحسين التبريد الطبيعي للمباني والاستلهام من المعمار الإسلامي القديم الذي كان يعتمد على المجرى الطبيعي للهواء وعلى الماء الجاري لتبريد المساحة داخل المنزل ولإضاءتها أيضًا. كما نحتاج إلى التخلي عن البدلات وربطات العنق التي تناسب الأجواء الباردة والعودة إلى أزيائنا التقليدية التي تناسب بيئاتنا الحارة.

يمكن تعميم هذا النمط في التفكير حتى على الصناعة، فما معنى أن نحرق الوقود لإنتاج الكهرباء بكفاءة تصل إلى 60% كأعلى قيمة لها ثم نستخدم الكهرباء مرة أخرى للتسخين بكفاءة أقل من الأولى لنخسر في الحالتين؟ في حين كان من الممكن استخدام الوقود مباشرة لتشغيل الأفران والتسخين. قِس على ذلك مراجعة كل عمليات التصنيع والتأكد من أنها جميعًا تراعي استخدام الطاقة المناسبة لتقليل الهدر إلى أقل قيمة ممكنة.

يعتبر قطاع النقل من اكبر مستهلكات الطاقة حيث تتجاوز نسبة الطاقة المستهلكة في هذا القطاع 45% عالمياً، اتجاه الدولة الى تشجيع استخدام النقل العام وتوفيره بصورة مريحة وتحفظ كرامة المستخدمين وتراعي احتياجاتهم يؤدى الى تقليل استهلاك الوقود في المركبات الخاصة والذي بدوره يقلل من الانبعاثات الكربونية ويحد من الزحام ويزيد من انتاجية الافراد حيث يمكنهم استثمار الوقت في نشاطات مفيدة. يمكن ايضا تشجيع الشركات على توفير سكن للعمال والموظفين بالقرب من مكان العمل وتشجيع تبني عادات صحية مثل قيادة الدرجات الهوائية لمكان العمل وتبني سياسة ساعات العمل المرنة وامكانية العمل عن بعد، كل هذا سيقلل من استهلاك الطاقة بشكل كبير في قطاع النقل بالاضافة لفوائدة الظاهرة للعيان في تحسين اسلوب الحياة وتبني نمط حياة صحي واكثر استدامة.

ديننا ينهانا عن الإسراف في كل شيء: عن سعد بن أبي وقاص عن النبي ﷺ أنه نهى عن الإسراف ولو كان على نهر جارٍ. قال الله تعالى: (وَلَا تُسْرِفُوا﴾[الأعراف: 31]، فالآية تعم ذلك. وقال النبي ﷺ: “كل واشرب والبس وتصدق في غير سرف ولا مخيلة”. فالمؤمن مأمور بالاقتصاد في كل شيء ومنهي عن الإسراف في كل شيء، حتى الماء، حتى في الوضوء والغسل يُقتصد. وقال رسول الله ﷺ: “المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ، والماء، والنار”.

الاقتصاد سمة بارزة في ديننا وفي صميم ثقافتنا الإسلامية، وينبغي تعزيز هذه القيم وهذا السلوك في أبنائنا في مراحلهم المبكرة لتشجيعهم على تبني أسلوب حياة موفر للطاقة.

قبل التفكير في إنشاء محطات طاقة كبرى لسد الاحتياج المتزايد للطاقة، ينبغي أن نفكر في استخدام الطاقة المتوفرة لدينا بصورة مثلى وبعيدة عن الإسراف. عندها يمكن اعتماد مصادر الطاقة المتجددة لتوليد الطاقة. أما إذا تجاهلنا جانب الطلب واعتمدنا على سياسة إنتاج المزيد والمزيد من الطاقة لسد الطلب اللامتناهي، فإننا سنستهلك موارد الأرض ولن نترك للأجيال القادمة ما يكفيها من الطاقة.

كاتب