تحرير قطاع الكهرباء: النموذج القياسي للإصلاحات و التحرير

تحدثنا في المقالات السابق أن قطاع الكهرباء إحتكاري بطبيعته ولا ينشاء سوق الكهرباء تلقائياً. ومن أجل إنشاء سوق للكهرباء، من الضروري تفكيك النظام المتكامل وفصل الأقسام الإحتكارية عن الأقسام غير الإحتكارية.

عندما نصف قسماً ما أنه قسم إحتكاري فإننا نعني أنه لايمكن إدخال المنافسة في سلسلة عمل القسم، ففي قطاع الكهرباء هناك قسمان لهما هذه الخاصية: قسم النقل وقسم التوزيع. هذان القسمان إحتكاريان لأنه ببساطة لا يمكن أن يكون لديك شركتان لكل واحدة شبكة كهربائية موازية لتوصيل الكهرباء في نفس الإطار الجغرافي و تتنافسان ضد بعضهما البعض. كما أنه من غير الممكن تقسيم الشبكة بين شركتين مختلفتين لأن إدارة شبكة الكهرباء تتطلب تنسيقًا عاليًا بسبب حساسيتها العالية للتغيرات في الوقت اللحظي (استقرار التردد)، وبالتالي فإن تكلفة التنسيق ستكون عالية جدًا. ومع ذلك، من الممكن إدارة الأجزاء المعزولة جغرافيًا من الشبكة بواسطة شركات مختلفة. على سبيل المثال، يمكن إدارة شبكات التوزيع المختلفة في ولايات مختلفة بواسطة شركات مختلفة. وهذا هو الحال بشكل عام للبنى التحتية المختلفة. إما القسمين المتبقيين من سلسلة عمل القطاع هما قسم التوليد و قسم التجزئة. ويمكن تحويل القسمين لأقسام تنافسية، وبالتالي، يتم تحريرهما من الإحتكار.

إذن، ما هي الخطوات اللازمة لتحرير قطاع الكهرباء وكيف يمكننا فصل الأقسام الإحتكارية عن الأقسام الأخرى؟ نجد العديد من الإختلافات في الأدبيات حول الخطوات الرئيسية للتحرير، ومع ذلك، إتفق الأكاديميون البارزون (مثل ستيفن ليتل تشايلد، وبول جوسكو، وتوراج جاماس [1-4]) طوال الوقت على سلسلة من الخطوات التي عُرفت في النهاية بإسم النموذج القياسي. يتألف النموذج القياسي من ستة خطوات رئيسية: تحويل المرافق لشركات تجارية، التنظيم، تفكيك وفصل الشبكة، إدخام المنافسة، خصخصة الشركات، وإدخال منتجي الطاقة المستقلين. وفي ما يلي، سنناقشة كل خطوة بصورة مختصرة و منفردة في الفقرات التالية.

1- تحويل المرافق العامة لشركات تجارية (Corporatization and Commercialization)

تعمل المرافق العامة عادة في ظل قيود ميزانية مرنة من الوزارة أو الحكومة. وعادةَ ما يكون ذلك بأشكال مختلفة مثل دعم تشغيل المرافق. تحويل هذه المرافق إلى مؤسسات تعمل بنظام الشركات تجارية هو العملية التي يتم من خلالها إخراج المرافق العامة من نطاق الوزارة وتحويلها إلى إدارات مختلفة ومستقلة. وتصبح المرافق كيانًا قانونيًا منفصلاً مع التزامات جديدة مثل إدارة الميزانية والإقتراض والمشتريات وتشغيل العمالة ودفع الضرائب والأرباح. ومن المهم تحسين الحوكمة المؤسسية للمرافق للحد من الفساد الداخلي والخارجي. وبعد هذا التحول يتوجب على الشركات الإلتزام بالعمل وفقًا لمبادئ القانون التجاري. وهذا يضيف أيضًا التزامات جديدة مثل التسويق والتسعير لإسترداد التكاليف، وتحصيل الفواتير، والمحاسبة. تهدف هذه الخطوة إلي تحسين الأداء الداخلي للمرافق المعنية في ظل التسعير لإسترداد التكاليف والحوكمة المؤسسية، وأيضًا تحسن الهيكل الإداري.

2- التنظيم (Regulation)

إن المرافق العامة المملوكة للدولة غالباً ما تكون ذاتية التنظيم في ظل لوائح تنظيمية معتدلة وغياب الشفافية. تسعى هذه الخطوة إلي إنشاء تنظيم واضح لتحسين أداء المرافق العامة، وزيادة مشاركة القطاع الخاص وإزالة التسييس المحتمل للمرافق العامة. ويبدأ التنظيم بسن قانون للكهرباء يعمل كممر لتشريعات الطاقة المطلوبة والتفويض القانوني لإعادة هيكلة القطاع. ويتخذ التنظيم أشكالاً عديدة (على سبيل المثال، الاستعانة بمصادر خارجية للتنظيم والتنظيم عن طريق العقود)، ولكن إنشاء وكالة تنظيمية مستقلة كان يعتبر أحد الخطوات الرئيسية في النموذج القياسي والشكل السائد لأنه يشير إلى نية الدولة لإعادة هيكلة القطاع. هناك موضوعان مهمان يجب على الهيئة التنظيمية تناولهما وهما تحديد التعرفة/التسعيرة (لكل شريحة) والوصول إلى الشبكة. ويتطلب هذا معلومات جيدة عن التكاليف وجودة الخدمة ومقارنة الأداء للشركات المشاركة. وبالتالي، فمن المتوقع أن يعمل التنظيم الجيد على حماية المستهلكين وتعزيز التشغيل والاستثمار الفعّال في القطاع.

3- تفكيك وفصل الشبكة (Unbundling)

لعل خطوة الفصل بين الإقسام هي الخطوة الأكثر أهمية لتمكين المنافسة وتفكيك الوظيفة الاحتكارية. ففي إعادة هيكلة القطاع، هناك نوعان من الفصل بين الأقسام: الفصل الرأسي الذي يعني فصل القطاعات التنافسية (مثل التوليد والإمداد بالتجزئة) عن القطاعات الخاضعة للتنظيم والقطاعات الاحتكارية الطبيعية (النقل والتوزيع)، والفصل الأفقي الذي يعني فصل الشركات المهيمنة في كل من قطاعي التوليد والتجزئة لخلق عدد كاف من الشركات المتنافسة وتخفيف القوة السوقية للشركات في قطاع التوليد. ويُعتقد أن الفصل بين القطاعات ضروري للحماية من الدعم المتبادل للشركات التنافسية والشركات الخاضعة للتنظيم والتمييز الذي قد يؤثر على منح الوصول إلى شبكات التوزيع والنقل.

4- إدخال المنافسة (Competition)

إن المنافسة هي جوهر النموذج القياسي وعجلة الكفاءة الاقتصادية. وتتطور المنافسة بين الشركات في قطاعات التوليد والتوريد من خلال التعاقد أو إنشاء سوق الكهرباء. يسمى هذا النوع من المنافسة بالمنافسة في السوق. والنوع الآخر من المنافسة هو المنافسة من أجل السوق و هي التي يمكن أن تحدث على مستوى شبكة النقل والتوزيع (وفقًا لنموذج العطاءات من أجل الإستحواذ وتشغيل الشبكة). النوع الإخير هي منافسة غير مباشرة يتم تحفيزها من خلال اللوائح التحفيزية لتوفير البنية الأساسية للشبكات التي تمكن بدورها للمنافسة في سوق الكهرباء. ويتم تحفيز المنافسة في السوق من خلال الربح ولها شكلان: المنافسة بالجملة في سوق التوليد من خلال سوق الكهرباء الطوعي والحر أو من خلال العقود الخاصة التي تتم بين الشركات المنتجة و المستهلكة. وتوجد تصاميم مختلفة لسوق الكهرباء تندرج من سوق الطاقة فقط إلى سوق السعة التوليدية، فضلاً عن بعض الآليات تكميلية الإخرى لضمان توازن النظام (على سبيل المثال، آليات توفير الخدمات المساعدة لتوازن التردد). ثم هناك المنافسة في مجال التجزئة حيث يختار المستهلكون مورد الطاقة الخاص بهم. ومن خلال إدخال بائع التجزئة، يتم نقل وظائف مثل التسويق والفوترة والتحصيل من شركات التوزيع إلى شركات التجزئة. وتعتبر المنافسة آلية موثوقة لتعزيز الكفاءة الفنية. ويكشف تباين سعر الكهرباء في السوق عن معلومات التكلفة في سوق المنافسة مما يؤدي إلى الدفع بتحسين الكفاءة الداخلية للشركات المولدة. وبالتالي، من المتوقع أن ينخفض ​​سعر الكهرباء في ظل المنافسة، ومن المتوقع أن يزيد العرض.

5- خصخصة الشركات (Privatization)

إن الخصخصة هي العملية التي يتم بموجبها نقل ملكية الدولة إلى مستثمرين من القطاع الخاص من خلال تجريد الأصول. يتم التجريد كلياً أو جزئياً من أصول شركات توليد وتوزيع ونقل المملوكة للدولة بهدف زيادة مشاركة القطاع الخاص، وخفض الإنفاق العام، وزيادة رأس مال شركات المرافق العامة. وهناك سبب مهم آخر (يُفترض في إطار نظريات الوكالة والاختيار العام[5] ) وهو أن الخصخصة تزيد من الأداء الاقتصادي من خلال تحسين السلوكيات الإدارية عبر تغيير حقوق الملكية، وتعريض شركات المرافق العامة لانضباط سوق رأس المال الخاص، وفرض أهداف قابلة للقياس بالاشتراك مع مدراء لمراقبة سلوك الإدارة (الوكيل)، وإعاقة استخدام الدولة لشركات المرافق العامة لتحقيق أجندات سياسية مكلفة (على سبيل المثال، التوظيف القائم على المحسوبية). وعلى هذا، فمن المتوقع أن تؤدي الخصخصة إلى زيادة إنتاجية العمالة واستخدام رأس المال. وهناك سبب آخر للخصخصة وهو أنها ضرورية للأنشطة التنافسية، حيث لا تشارك الحكومات عموماً (ومن الأفضل) في هذه الأنشطة.

6- إدخال منتجي الطاقة المستقلين (Independent Power Producers – IPP)

إن مشاريع الطاقة المستقلة تُعرَّف بأنها مشاريع طاقة يتم تطويرها وإنشاؤها وتشغيلها وامتلاكها من قِبَل القطاع الخاص؛ وهي مشاريع تعتمد على نسبة كبيرة من التمويل الخاص؛ وترتبط باتفاقيات شراء الطاقة طويلة الأجل مع شركة المرافق العامة. وتختلف مشاريع الطاقة المستقلة في هياكل الملكية والتمويل، فضلاً عن خيارات التكنولوجيا ومخاطر الإستثمار. ومعظم مشاريع الطاقة المستقلة مملوكة للقطاع الخاص بالكامل، وإن كان العديد منها ينطوي على استثمار مشترك مع القطاع العام. وتتمتع مشاريع الطاقة المستقلة بالقدرة على إظهار فوائد الاستثمار والإدارة الخاصة، فضلاً عن تمهيد الطريق للمنافسة من خلال زيادة عدد الشركات المتنافسة (وبالتالي زيادة العرض). ويتم تمويل مشاريع الطاقة المستقلة من خلال استثمارات أسهم مختلفة وبشكل أساسي من خلال مؤسسات التمويل الإنمائي في البلدان النامية. وتختلف الطرق التي يتم بها التعاقد مع مشاريع الطاقة المستقلة أيضاً من التفاوض المباشر إلى العطاءات التنافسية.

والآن، رغم أن النموذج القياسي واضح في الأساس المنطقي وراء التسلسل، فإن العديد من البلدان لم تتبع الوصفة النموذجية الموصى بها عملياً. فكيف إذن سارت الأمور مع تنفيذ النموذج القياسي؟ وهل تخلت البلدان ببساطة عن النموذج القديم للاحتكار الحكومي؟ أم أن هناك قوة أخرى ساهمة في حرف الإصلاحات النموذجية عن مسارها المناط؟ سنتحدث أكثر عن هذا في المقالات التالية بإذن الله.


المراجع:

[1] Littlechild, S. (2004). Competition and regulation in the UK electricity market. Institute d’Economie ´ Publique, IDEP, 14(1):3–14.

[2] Joskow, P. L. (2000). Deregulating and regulatory reform in the us electric power sector. MIT Center for Energy and Environmental Policy Research.

[3] Hunt, S. (2002). Making competition work in electricity, volume 146. New York: John Wiley & Sons.

[4] Jamasb, T. and Pollitt, M. (2005). Electricity market reform in the european union: review of progress toward liberalization & integration. The Energy Journal, 26(Special Issue).

[5] Zhang, Y.-F., Parker, D., and Kirkpatrick, C. (2008). Electricity sector reform in developing countries: an econometric assessment of the effects of privatization, competition and regulation. Journal of Regulatory Economics, 33(2):159–178.

مشاركة المقالة على :
فيسبوك
منصة 𝕏
لينكدن
واتساب
البريد الاكتروني