في العقدين الماضيين، عمالقة الحوسبة السحابية (Hyperscalers) من أمثال قوقل وميكروسوف وامازون صنعوا لأنفسهم اسماً في مجال تقديم حلول تقنيات المعلومات السحابية، كالتخزين السحابي والموارد الحوسبية وبرامج الانتاجية السحابية (معالجة النصوص، ادارة السجلات، ادارة المهام) وغيرها الكثير. مؤخراً ومع ثورة الجيل الخامس لتقنيات الاتصالات، برزت أمام عمالقة الحوسبة السحابية Hyperscalers فرصة ذهبية لصناعة اسم لهم في قطاع عملاق، وهو قطاع الاتصالات، وذلك من خلال تقديم حلول بناء و تشغيل الشبكات المركزية لكبار مشغلي شبكات الاتصالات مثل Vodafone و AT&T و Telefonica وغيرهم. فما المميز في تقنية الجيل الخامس التي قربت بين عالمي الحوسبة السحابية و الاتصالات اللاسلكية؟ واين يكمن الدافع لعمالقة الحوسبة السحابية لدخول سوق الاتصالات؟ هذا محور مقالة اليوم، فحياكم.
ماهي الشبكة المركزية؟
هي احد مكونين رئيسيين لأي شبكة اتصالات لاسلكية، ألا وهما: شبكة النفاذ الراديوي والشبكة المركزية. الأولى هي الشبكة المسؤولة عن ادارة ابراج الاتصالات ومواردها الراديوية، اما الثانية فهي قلب الشبكة اللاسلكية المسؤول عن ادارتها وربط شبكة النفاذ والمستخدمين بالعالم من حولهم.
تطورت بنية الشبكة المركزية (معماريتها ووظائفها) بشكل كبير خلال اجيال الشبكات اللاسلكية—من الجيل الاول الى الجيل الخامس—لكن بدون الاسهاب في التفاصيل المعقدة والمتغيرة من جيل الى اخر، يمكن القول بأن معمارية الشبكة المركزية تشبه الى حد ما معمارية شبكة الانترنت، حيث انها تتشكل من وحدات لتمرير حزم البيانات (data packets). أما وظائفها، فهي بشكل عام تتمحور حول صنفين من الوظائف: وظائف الربط ووظائف التحكم. الصنف الأول يُعنَى بكل الوظائف التي تربط مستخدمي الشبكة اللاسلكية ببعضهم البعض او بشبكة الإنترنت، بالإضافة لربطهم بالمستخدمين في شبكات لاسلكية أخرى. أما الصنف الثاني، فيركز على وظائف تشغيل الشبكة المركزية، مثل جودة الخدمة ومتابعة المستخدمين الفاعلين وادارة عمليات الفوترة و توثيق المستخدمين وغيرها من الوظائف. الرسم التوضيحي رقم ١ يلخص المعمارية ووظائفها. لشرح اعمق ينصح بمراجعة الكتاب التالي:
Rommer S, Hedman P, Olsson M, Frid L, Sultana S, Mulligan C. 5G Core Networks: Powering Digitalization. Academic Press; 2019 Nov 14
ما الجديد في الشبكة المركزية للجيل الخامس وأين يكمن التحدي؟
الجيل الخامس يعيد تصميم الشبكة المركزية ليجعلها متوائمة مع بنية الحوسبة السحابية كما هو موضح في الرسم التوضيحي ٢، بشكل ادق يمكن القول بأن وظائف الربط والتحكم حُوِّلَت من وظائف تعمل على اجهزة خاصة (dedicated hardware) لوظائف افتراضية تعمل على حواسب خادمة، كل وظيفة اصبحت مصممة على شكل تطبيق حوسبة سحابية يطلق عليه مسمى خدمة جزيئية (microservice). احد اكبر الدوافع خلف هذا التحول هو الحاجة لرفع مرونة وسرعة استجابة الشبكة المركزية، وذلك لكي تتمكن من التعامل مع: (١) زيادة الطلب والتي تظهر على شكل زيادة في كمية البيانات المارة خلال الشبكة، و(٢) تنوع الخدمات والذي يظهر على شكل اختلاف في متطلبات كل خدمة—بعض الخدمات تحتاج زمن استجابة عالي بينما بعضها يتطلب احتمال ضعيف لحدوث الأخطاء (موثوقية عالية).
هذا التحول في بنية الشبكة لا يأتي بدون تحديات، أولها هو وضع عبئ مالي جديد على المشغلين، وذلك من طريقين:
- بناء مراكز بيانات وبنية حوسبة سحابية للشبكة المركزية، وهذا يرفع من تكاليف شبكة الجيل الخامس، خصوصاً عندما يضاف هذا العبئ على التكاليف التي يتحملها المشغلين لبناء شبكات النفاذ الراديوي.
- تطوير منظومة عمل قادرة على تشغيل هذه الشبكة، مثل تدريب واستقطاب مهندسين وفنيين ومطورين متمرسين في الحوسبة السحابية والاتصالات اللاسلكية معاً، وايضاً الاستثمار في انظمة برمجية جديدة لادارة ومراقبة ومتابعة اداء الشبكة.
الرسم البياني ٣ يرسم صورة للعبئ المالي وأثره الحالي عالمياً؛ حيث يُتَوقع زيادة الانفاق على الشبكة المركزية ٦٠٪ خلال سنة ٢٠٢٣ مقارنة بسنة ٢٠٢٢. هذه الزيادة تهدف الى رفع عدد الشبكات المركزية المُشغَّلَة عالمياً، والذي يقدر عددها بــ٣٤ شبكة فقط في ٢٠٢٢، ليلامس العدد المخطط له والذي يتجاوز ١٢٢ شبكة.
العبئ المالي اعلاه يقود بدوره لتحدي آخر، وهو ايجاد طرق لتوليد الارباح من الشبكة الجديدة (monitization). والذي يتطلب تصميم حلول وخدمات مبتكرة يمكن للمشغلين تسويقها على المستخدمين (شركاتٍ كانوا ام افراد) كحالات استخدام جديدة، بعض الأمثلة لهذه الحالات المبتكرة هي: (١) توفير شبكات خاصة للمصانع المؤتمتة والتي تتطلب موثوقية عالية، او (٢) توفير خدمة ربط السيارات ذاتية القيادة والتي تتطلب شبكة لاسلكية لها زمن استجابة قصير وموثوقية عالية في نفس الوقت.
نطاق الشراكة بين عمالقة الحوسبة السحابية و المشغلين و الانعكاسات المتوقعة
النقاش السابق هو ارضية جيدة تمكننا من العودة لصلب هذه المقالة، وهو فرصة الشراكة بين عمالقة الحوسبة السحابية ومشغلي تقنية الجيل الخامس. بالنسبة للمشغلين، هناك نموذجين تقليديين—الى حد ما—للانتقال لبنية حوسبة سحابية و تطوير الوظائف الافتراضية، وهما:
- الاعتماد على مصمم ومصنع متخصص في الشبكات المركزية (core network vendor)، يكون مسؤولاً عن بناء الشبكة المركزية و تطوير وظائفها كاملةً، بحيث يختار ويصمم الأجهزة و البرمجيات اللازمة.
- الاعتماد على مجموعة من المصنعين لتوفير البنية التحتية الحوسبية (computing resources) باشراف مصمم ومصنع شبكات مركزية متخصص، والذي يلتزم بتوفير انظمة التشغيل للشبكة والوظائف الاقتراضية.
كلا الطريقتين تلزمان المشغلين بتحمل نفقات رأسمالية (CAPEX) لتطوير الشبكة المركزية، والذي يقود الى مشكلة العبئ المالي المذكورة سابقاً. هذه المشكلة تتفاقم عندما نعلم ان سوق مصممي ومصنعي الشبكات المركزية يتشكل من عدد صغير من اللاعبين، والذين يتفرد ثلاثة منهم بقيادته عالمياً، الرسم التوضيحي ٤ يبرز اهم اللاعبين وموقعهم من بعضهم البعض.
يبرز دور عمالقة الحوسبة السحابية من زاوية تقديم نموذج بناء للشبكة المركزية يخفف من النفقات الرأسمالية ويرفع التنافسية بين المصممين.عمالقة الحوسبة السحابية hyperscalers يمتازون بالآتي:
- خبرة عقدين من الزمن في مجال بناء وتشغيل مراكز البيانات، و تطوير منصات و تطبيقات حوسبة سحابية.
- الملاءة المالية الكافية للمنافسة في أسواق جديدة نسبياً.
باستغلال هاتين الميزتين، يستطيع عمالقة الحوسبة السحابية تقديم نموذج يخفف من نفقات بناء الشبكة، وذلك بتحويلها من نفقات رأسمالية لنفقات تشغيلية (CAPEX to OPEX shift)؛ فيمكنهم استغلال بنية الحوسبة السحابية التي يمتلكونها ولازالوا يوسعونها لتقديم خدمة تشغيل الشبكة المركزية للمشغلين بطريق “الدفع بقدر الاستخدام” (Pay as you go). كما يستطيع عمالقة الحوسبة السحابية فتح نطاق المنافسة في سوق تصميم و تصنيع الشبكات المركزية، فلديهم من البنية التحتية والقدرات البشرية ما يمكنهم من منافسة قادة السوق، وتعزيز مبادئ الابتكار فيه.
هناك ثلاث انعكاسات متوقعة لشراكة عمالقة الحوسبة السحابية مع مشغلي شبكات الجيل الخامس، ألا وهي:
- تسريع عملية تبني الشبكة المركزية للجيل الخامس، والتقليل من عبئ تشغيلها.
- تقليل عبئ التشغيل يوفر مساحة اكبر للمشغلين للتركيز على تطوير خدمات مبتكرة للمستخدمين.
- الشراكة تسهل على المشغلين تبني تقنيات ناشئة ذات اثر مزعزع (disruptive technologies)، مثل الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في تشغيل وادارة الشبكة، او تمكين تبني معماريات مستقبلية مثل معمارية Open RAN.