صورة تعبيرية رقمية تُظهر قفلًا رقميًا ورموزًا ثنائية (Bits) تمثل الأمن السيبراني وتشفير البيانات في بيئة كمومية.
جنى سعيد الشهراني

المفاتيح الخام في أنظمة التوزيع الكمي (QKD): البنية، التحديات، والتصفية الإحصائية

المقدمة

في زمن تتسارع فيه التهديدات الأمنية الرقمية، برزت أنظمة الاتصالات الكمية بوصفها أحد أكثر الاتجاهات وعودًا لحماية البيانات الحساسة. ويُعدّ توزيع المفاتيح الكمية (QKD) من أبرز تطبيقات هذه التقنية، إذ يوفر آلية لتوليد مفاتيح تشفير بين طرفين تعتمد على مبادئ ميكانيكا الكم، لا على الحسابات الرياضية التقليدية.

عند تنفيذ أي بروتوكول QKD — مثل BB84 — يتبادل الطرفان كيوبتات تحمل معلومات عشوائية، تُقاس لاحقًا وتُحوّل إلى سلسلة من القيم الثنائية تُعرف باسم “المفتاح الخام” (Raw Key). ورغم أن هذه المفاتيح تُولَّد ضمن بيئة كمومية، إلا أنها لا تكون مثالية في صورتها الأولية؛ إذ غالبًا ما تتأثر بالضوضاء، أو بأخطاء القياس، أو حتى بمحاولات التنصت المحتملة من طرف ثالث.

من هنا تبدأ المرحلة الأهم: فهم بنية المفاتيح الخام وتحليل خصائصها الإحصائية بدقة، ثم العمل على تصحيحها وتحسينها قبل اعتمادها كمفتاح تشفير نهائي. هذه المرحلة، التي قد تبدو تقنية في ظاهرها، تُعد في الحقيقة الأساس الذي يُبنى عليه أمن الاتصال الكمي بأكمله

بنية المفاتيح الخام

عند الانتهاء من تبادل الكيوبتات بين الطرفين في نظام QKD، تكون أول نتيجة عملية هي توليد ما يُعرف بـ”المفتاح الخام” — وهي سلسلة أولية من القيم الثنائية التي تمثل نتائج القياسات الكمومية. هذه السلسلة لا تُعدّ جاهزة للاستخدام مباشرة، بل هي مجرد “مسودة” أولية لمفتاح التشفير، تحتوي على أخطاء محتملة وتشويشات ناتجة عن طبيعة القناة الكمومية أو الظروف البيئية أو حتى محاولة تنصّت.

يتكون المفتاح الخام من بتات (Bits) يجمعها الطرفان بعد إجراء القياسات على الكيوبتات المستقبَلة. لكن بسبب اختلاف قواعد القياس التي يستخدمها كل من المرسل والمستقبل، لا تكون كل البتات متطابقة بين الطرفين. علاوة على ذلك، فإن الضوضاء الكمومية، والتداخلات غير المرئية التي قد تحدث أثناء النقل، تُحدث خللاً إضافيًا في هذا المفتاح الأولي.

من الناحية الإحصائية، تُميز المفاتيح الخام بعدة خصائص مهمة أبرزها:

معدل الخطأ الكمي (QBER): وهو النسبة المئوية للبتات المختلفة بين المفتاحين قبل التصحيح، ويُستخدم كمؤشر على جودة القناة.

الطول الفعّال للمفتاح: أي عدد البتات المتطابقة بعد استبعاد البتات الناتجة عن اختلاف قواعد القياس.

معدل التشويش داخل القناة: ويقيس مستوى الضوضاء أو التداخل الذي قد يشير إلى خلل في البيئة أو وجود متطفل.

بمعنى آخر، فإن المفتاح الخام هو نقطة البداية التي تنطلق منها عملية معالجة دقيقة ومعقدة لتحويل سلسلة غير مضمونة إلى مفتاح آمن وقابل للاستخدام في التشفير النهائي. وفهم بنيته بدقة يُعتبر ضروريًا ليس فقط لضمان الأمان، بل أيضًا لتحسين كفاءة النظام الكمي ككل.

التحديات المرتبطة باستخدام المفاتيح الخام

رغم أن المفاتيح الخام تُولد من خلال تفاعل كمومي محمي نظريًا بقوانين الطبيعة، فإنها في الواقع ليست بمنأى عن التحديات. فقبل أن تصبح هذه المفاتيح صالحة للاستخدام في التشفير النهائي، لا بد من التعامل مع عدد من المشكلات التقنية التي قد تؤثر على مصداقيتها وأمانها.

أحد أبرز التحديات يتمثل في عدم التطابق بين نسختي المفتاح لدى الطرفين. بسبب استخدام قواعد قياس مختلفة أثناء استقبال الكيوبتات، تختلف بعض البتات المسجلة لدى الطرفين، مما يؤدي إلى مفتاحين غير متطابقين بالكامل. هذا الاختلاف يُعد طبيعيًا ضمن سياق البروتوكول، لكنه يتطلب معالجة دقيقة من خلال خوارزميات تصحيح الأخطاء.

التحدي الثاني هو معدل الأخطاء الكمومية المرتفع، خصوصًا في بيئات الاتصالات البعيدة أو ذات التشويش العالي. ارتفاع معدل الخطأ قد يشير إلى سوء في القناة، أو – في أسوأ الأحوال – إلى محاولة اعتراض من طرف ثالث.

كما يواجه النظام صعوبة في كشف التداخلات الخفية دون التأثير على المعلومات الكمومية نفسها. وبما أن أي قياس خارجي على الكيوبتات يُحدث اضطرابًا في حالتها، فإن النظام يُصبح بحاجة إلى آلية توازن بين الحساسية الأمنية والاحتفاظ بالمعلومة.

أخيرًا، حتى مع تصحيح الأخطاء، فإن جزءًا من معلومات المفتاح الخام قد يكون مكشوفًا جزئيًا بسبب طبيعة البروتوكول أو التفاعلات الجانبية. وهنا تظهر الحاجة لمرحلة لاحقة تُعرف بالتقطيع الخصوصي، تهدف إلى إزالة أي أثر للمعلومات المسربة قبل استخدام المفتاح في التشفير.

تصحيح المفاتيح الخام وتحسين أمانها

بعد توليد المفاتيح الخام، تبدأ واحدة من أهم مراحل تأمين الاتصال الكمي:

تحويل المفتاح الأولي غير المثالي إلى مفتاح نهائي موثوق وآمن. هذه المرحلة تعتمد على عمليتين مترابطتين: تصحيح الأخطاء (Reconciliation) والتقطيع الخصوصي (Privacy Amplification).

1. تصحيح الأخطاء (Error Reconciliation)

في البداية، لا تكون نسخة المفتاح لدى الطرفين (Alice وBob) متطابقة تمامًا بسبب التداخل أو القياسات المختلفة.

وهنا تُستخدم خوارزميات تصحيح أخطاء مصممة خصيصًا للعمل على قنوات غير موثوقة مثل:

• خوارزمية Cascade: وهي من أوائل الأساليب المستخدمة، وتعتمد على مقارنة جزئية لمجموعات من البتات لتحديد أماكن الخطأ دون الكشف عن البتات نفسها.

رموز تصحيح الأخطاء منخفضة الكثافة (LDPC Codes):تقدم أداءً أفضل من حيث الكفاءة وتقليل زمن المعالجة، وتُعتبر خيارًا حديثًا وفعّالًا.

تُنفذ هذه الخوارزميات عبر قناة كلاسيكية علنية، ولكن بطريقة مدروسة لا تسمح لأي طرف ثالث بمعرفة محتوى المفتاح، بل فقط تحديد مواقع عدم التطابق.

4.2 التقطيع الخصوصي (Privacy Amplification)

حتى بعد تصحيح الأخطاء، تبقى هناك إمكانية أن يكون المهاجم (Eve) قد حصل على جزء من معلومات المفتاح — سواء عبر تحليل القناة أو استغلال الضوضاء.

لهذا السبب، تأتي مرحلة التقطيع الخصوصي، والتي يتم فيها تقليص المفتاح الخام إلى مفتاح أقصر، لكن بدرجة عالية من الأمان المعلوماتي.

تُستخدم في هذه العملية دوال هاش كونية (Universal Hash Functions)، تدمج المعلومات المتبقية بطريقة تجعل من المستحيل تقريبًا استنتاج أي جزء من المفتاح النهائي، حتى لو كانت لدى المهاجم معلومات جزئية عن المفتاح الخام.

بهذا تُصبح المفاتيح الخام، بعد التصحيح والتقطيع، مفاتيح نهائية يمكن استخدامها في تشفير البيانات عبر قناة كلاسيكية آمنة — بثقة تامة في أنها محمية من أي اعتراض أو استرجاع لاحق. 

الخاتمة

تمثل المفاتيح الخام حجر الأساس في أنظمة توزيع المفاتيح الكمية، وهي نقطة الالتقاء بين الطبيعة الفيزيائية للاتصال الكمومي والمتطلبات الأمنية للتشفير الحديث. ورغم أنها تُستخلص من بيئة يُفترض أنها آمنة نظريًا — مستندة إلى قوانين ميكانيكا الكم — إلا أن واقع التنفيذ يفرض تحديات تقنية لا يمكن تجاهلها.

إن جودة المفتاح الخام، وفعالية العمليات اللاحقة من تصحيح وتقطيع، تؤثر بشكل مباشر على أمان النظام ككل. فكل خطأ غير مكتشف، أو معلومة مسرّبة، قد تفتح ثغرة يستغلها مهاجم بارع. ولهذا، لا يُنظر إلى المفاتيح الخام باعتبارها منتجًا نهائيًا، بل مرحلة أولية دقيقة تتطلب معالجة رياضية وكمومية شديدة الانضباط.

وفي ظل تسارع التقدم في الاتصالات الكمية، يبرز فهم المفاتيح الخام، من حيث بنيتها الإحصائية وآليات معالجتها، كمسار بحثي أساسي لتطوير الجيل القادم من أنظمة التشفير المقاوِمة للحوسبة الكمومية.

المراجع :

1- ‏D. Elkouss وJ. Martinez-Mateo وV. Martin، “تصحيح المعلومات في توزيع المفاتيح الكمية”، ‏arXiv preprint، arXiv:1007.1616، يوليو 2010. [متاح على الإنترنت]: https://doi.org/10.48550/arXiv.1007.1616

2- ‏J. Martinez-Mateo وD. Elkouss وV. Martin، “تصحيح المفاتيح عالية الأداء في أنظمة QKD”، ‏Scientific Reports، المجلد 3، العدد 1، ص. 1576، 2013. [متاح على الإنترنت]: https://doi.org/10.1038/srep01576

3-M. Peev وآخرون، “شبكة توزيع المفاتيح الكمية SECOQC في فيينا”، ‏New Journal of Physics، المجلد 11، العدد 7، ص. 075001، 2009. [متاح على الإنترنت]: https://doi.org/10.1088/1367-2630/11/7/075001

4- ‏L. Zhang وX. Ma وS. Wang، “خوارزميات تصحيح أحادية الاتجاه في توزيع المفاتيح الكمية”، ‏Cybersecurity، المجلد 2، العدد 1، ص. 1–9، 2019. [متاح على الإنترنت]: https://doi.org/10.1186/s42400-018-0013-8

5- ‏S. Wang وZ. Zhang وH. Li وQ. Zhang، “تقطيع الخصوصية التدريجي في التشفير الكمي”، ‏PRX Quantum، المجلد 3، العدد 1، ص. 010310، 2022. [متاح على الإنترنت]: https://doi.org/10.1103/PRXQuantum.3.010310

مشاركة المقالة على :
فيسبوك
منصة 𝕏
لينكدن
واتساب
البريد الاكتروني