الشرائح الإلكترونية المصنوعة من أشباه الموصلات.
سلطانة المطيري

لماذا “شبه” موصل بالتحديد؟ لماذا ليس موصلًا عاديًا أو عازلًا؟

من الشائع الحديث عن “أشباه الموصلات (Semiconductors)” في الأخبار أو في مجالات الإلكترونيات والتقنية، لكن نادرًا ما نتوقف ونتساءل: لماذا “شبه” موصل؟ لماذا ليس موصلًا عاديًا أو حتى عازلًا؟

الاسم بحد ذاته يثير التساؤل، والإجابة على هذا السؤال توضح أساس كل الأجهزة الحديثة التي نستخدمها اليوم، من الحواسيب إلى الهواتف الذكية وحتى أنظمة السيارات المتقدمة.

في هذا المقال، سنستعرض معنى “شبه الموصل”، ولماذا هو بالتحديد المادة المناسبة لبناء مكونات الحوسبة الحديثة.

الفرق بين الموصل، العازل، وشبه الموصل

لفهم سبب تميز أشباه الموصلات، من المهم أولًا معرفة أن المواد في عالم الكهرباء تنقسم حسب قدرتها على تمرير التيار الكهربائي، وهنالك ثلاث أنواع رئيسية: الموصل، العازل، وشبه الموصل.

توزيع الطاقة في المواد:

لفهم الفرق بين الموصل، العازل، وشبه الموصل، من المهم أولًا معرفة كيف يتم توزيع الطاقة في المواد الصلبة، وبالتحديد كيف تختلف نطاقات الطاقة فيها.
الصورة التالية توضح الفرق بين نطاق التكافؤ ونطاق التوصيل في الأنواع الثلاثة:

المصدر:

Electronic Devices: Conventional Current Version, Thomas L. Floyd, 9thEdition, 2012

  • (a) العازل (Insulator):

الفراغ بين نطاق التكافؤ ونطاق التوصيل كبير جداً، مما يمنع الإلكترونات من الانتقال، وبالتالي لا تمرر التيار.

أمثلة: الزجاج، البلاستيك، المطاط.

  • (b) شبه الموصل (Semiconductor):

الفراغ الطاقي أصغر، ويمكن للإلكترونات أن تقفز إلى نطاق التوصيل عند رفع درجة الحرارة أو بإضافة شوائب (تشويب – Doping).

أمثلة: السيليكون (Si)، الجرمانيوم (Ge)، الكربون في صورة الجرافين.

  • (c) الموصل (Conductor):

لا يوجد فراغ فعلي بين النطاقين، أو أنهما متداخلان، مما يسمح للإلكترونات بالحركة بحرية.

أمثلة: النحاس، الفضة، الذهب، الألمنيوم.

التشويب (doping): كيف توصل أشباه الموصلات التيار الكهربائي؟

في حالته النقية، لا يحتوي السيليكون على إلكترونات حرة كثيرة، لذلك لا يوصل التيار بسهولة. لكن بمجرد أن يتعرض لدرجة حرارة كافية، تبدأ بعض الإلكترونات في كسر روابطها مع الذرات، وتتحرّك بحرية داخل الشبكة البلورية.

كل مرة يغادر فيها إلكترون موقعه، يترك خلفه فراغاً يسمى “فجوة (Hole)” ، وتستطيع الإلكترونات المجاورة أن تنتقل إليه. هذا ما يُعرف بـ “زوج إلكترون-فجوة (electron-hole pair)”. هذه الظاهرة هي أساس حركة التيار في أشباه الموصلات.

كما توضّحه الصورة التالية:

المصدر:

Electronic Devices: Conventional Current Version, Thomas L. Floyd, 9thEdition, 2012

  • في الأعلى: تكوُّن الأزواج عند اكتساب الإلكترونات طاقة حرارية.
  • في الأسفل: إعادة اتحاد الإلكترونات مع الفجوات، وهي عملية تعيد التوازن في الشبكة.

هذه الظاهرة هي أساس حركة التيار في أشباه الموصلات. لكن عدد هذه الأزواج في السيليكون النقي قليل نسبياً، لذلك يتم تعزيز التوصيل من خلال عملية تُعرف بـ “التشويب – Doping”، وهي إضافة كمية صغيرة من مادة أخرى إلى شبكة السيليكون، مما يخلق نوعين مختلفين:

  • شبه موصل من نوع n-type: نضيف ذرات مثل الزرنيخ (As) ، فتكون الإلكترونات الحرة هي الناقل الرئيسي للتيار.
  • شبه موصل من نوع p-type: نضيف ذرات مثل البورون (B)، وتكون الفجوات هي المسؤولة عن تمرير التيار، من خلال انتقال الإلكترونات لملء هذه الفجوات.

وهنا يبدأ السيليكون في التصرف بطريقة يمكن التحكم فيها كهربائيًا، ويصبح المادة الأساسية لصناعة المكونات الإلكترونية مثل الترانزستور والديود.

من المرحلات إلى الترانزستور: كيف بدأت الحوسبة؟

في البداية، كانت الحواسيب تُبنى باستخدام المرحلات (relays)، وهي مفاتيح ميكانيكية تفتح وتغلق عند مرور التيار في ملف نحاسي بداخلها، وهي بطيئة، ضخمة، وتستهلك طاقة عالية.

بعد ذلك، ظهرت الأنابيب المفرغة (vacuum tubes) التي كانت تعمل كمفاتيح إلكترونية أسرع وأكثر موثوقية من المرحلات، لكنها ما زالت كبيرة الحجم، تنتج حرارة، وتستهلك طاقة كبيرة.

ثم جاء الترانزستور (Transistor)، وهو عنصر صغير مصنوع من شبه موصل. يمكنه أداء نفس وظيفة المفتاح (switch)، لكنه سريع جداً، صغير الحجم، ويستهلك طاقة قليلة. ببساطة، الترانزستور هو ما جعل الحوسبة الحديثة ممكنة.

وبالتالي، يمكن القول إن أشباه الموصلات ليست مجرد مادة، بل هي ما سمح للعالم بتصغير الحواسيب، وتسريعها، وزيادة كفاءتها إلى المستوى الذي نعرفه اليوم.

الترانزستور كمفتاح: حجر الأساس في الحوسبة

أهم طور في الترانزستور هو قدرته على العمل كمفتاح (Switch). هذه الوظيفة البسيطة شكليًا (أن يسمح أو لا يسمح بمرور التيار)، هي ما يُبنى عليه كل شيء في الحاسوب.

في جوهره، الترانزستور يعمل كمفتاح (Switch) إلكتروني:

  • إذا سمح بمرور التيار، نعتبر الحالة “تشغيل (On)”، وتمثل الرقم 1.
  • وإذا منع التيار، تكون “إيقاف (Off)”، وتمثل الرقم 0.

كل نظام رقمي، وكل عملية منطقية، تُبنى على هذه الحالتين. عند جمع عدة ترانزستورات، نكوّن بوابات منطقية مثل AND وOR وNOT، والتي تُستخدم لتنفيذ العمليات الحسابية والمنطقية داخل وحدة المعالجة.

ومع تطور التصميم، أصبح بالإمكان دمج ملايين، بل مليارات الترانزستورات في شريحة صغيرة بحجم ظفر، كل واحد منها يعمل كمفتاح يتحكم في إشارة معينة.

ومن خلال هذا التبديل بين حالتين فقط، تُبنى كل العمليات الرقمية داخل المعالج، بدءاً من أبسط التعليمات وحتى تنفيذ البرمجيات على مستوى النظام.

التبديل يقود إلى التخزين: الترانزستور وبتّ واحد من الذاكرة

كما يعمل الترانزستور (Transistor) داخل المعالج للتحكم في الإشارات وتنفيذ العمليات، فإن له دورًا مشابهًا داخل وحدات الذاكرة، لكن بطريقة مختلفة قليلًا.

الذاكرة (سواء كانت مؤقتة مثل RAM أو دائمة مثل Flash) تعتمد على تخزين البيانات في شكل بتّات (bits) أي إما 0 أو 1. ولكي تتم هذه العملية، نحتاج إلى عنصر قادر على التحكم في حالة معينة: هل نحتفظ بقيمة؟ هل نسمح بقراءتها؟ هل نكتب قيمة جديدة؟

في خلية الذاكرة (memory cell) ، يقوم الترانزستور بالتحكم فيما إذا كانت الشحنة تُخزّن أو تُفرغ، أو تُقرأ من مكانها.
بمعنى آخر:

  • إذا أردنا كتابة (Write) قيمة، يُفعّل الترانزستور ليسمح بمرور التيار إلى موقع التخزين.
  • وإذا أردنا قراءة (Read) قيمة، يُفعّل الترانزستور ليسمح بمرور التيار العكسي لإخراج البيانات.

هذا التبديل السريع والمنظم هو ما يجعل وحدة المعالجة المركزية (CPU) قادرة على التعامل مع الذاكرة بكفاءة: تقرأ منها، تكتب فيها، وتعيد استخدام نفس المواقع آلاف المرات في الثانية.

ختامًا

السبب الذي يجعل “شبه الموصل” مميزًا عن الموصلات أو العوازل هو أنه يجمع بين خصائص الاثنين بطريقة تتيح لنا التحكم في سلوك التيار الكهربائي بدقة. هذه القدرة على التحكم هي ما جعلته أساسًا لصناعة الترانزستور، ومنها بدأت الحوسبة الحديثة.

فالسؤال “لماذا شبه موصل؟” تُجيب عليه كل الأجهزة الإلكترونية من حولنا: لأنه المادة الوحيدة التي تجمع بين العزل والتوصيل بطريقة يمكن التحكم بها.

المراجع:

  •  Electronic Devices: Conventional Current Version, Thomas L. Floyd, 9thEdition, 2012
  •  Electronic Devices and Circuit Theory: Pearson New International Edition, 11ᵗʰ Edition, (2013) by Robert L. Boylestad (Author), Louis Nashelsky (Author)
  •  Computer Organization and Architecture: Designing for Performance, William Stallings, 8ᵗʰ Edition

    , 2010

مشاركة المقالة على :
فيسبوك
منصة 𝕏
لينكدن
واتساب
البريد الاكتروني