في الجزء الأول من (سلسلة علمني التخصص)، تحدثت عن أثر دراسة الهندسة الكهربائية على حياتي أثناء مسيرتي الجامعية، وتطرقت إلى الأثر الذي تركه في نفسي وعلى تفكيري وفي نظرتي للحياة وتقييمي للناس.
فدور تخصص (الهندسة الكهربائية) وتأثيره لا يقتصر فقط على فهم النظريات العلمية ومعرفة تطبيقها أو حفظ المعادلات المعقدة والقدرة على استخدامها في المسائل لإيجاد الحل الصحيح، بل لا يقتصر هذا الدور فقط على امتلاك الخبرة العملية في المختبرات والقدرة على اكتشاف المشاكل وإصلاحها، والواقع أن دور تخصص (الهندسة الكهربائية) يتعدى ذلك كله، فيدخل في كثير من النواحي الحياتية التي قد لا يكون لها علاقة مباشرة بما تمت دراسته في مقاعد الدراسة أو في المختبرات الهندسية.
وفي الجزء الأول أشرت إلى دور من هذه الأدوار، حيث ذكرت أن هذا التخصص قد علمني أنه (لا يوجد شيء في هذا الكون قد استوفى صفات الكمال)، فالنقص والقصور صفة متلازمة ودائمة لا يمكن الفكاك عنها بأي حال من الأحوال، وقد ذكرت العديد من الأمثلة التي استقيتها أثناء دراستي حيث أن هذه الأمثلة تسير جنباً إلى جنب مع هذه القاعدة الذهبية.
وفي هذا الجزء سأتحدث عن جانب آخر ومهم تعلمته من خلال دراستي للهندسة الكهربائية خلال أعوام الدراسة وهي أهمية تحري الدقة والتفاصيل الصغيرة في الحياة، فمما لا شك فيه أن التفاصيل الصغيرة تسهم إسهاماً عظيماً في إنجاز المشاريع الكبيرة وتلعب دوراً كبيراً في إضفاء لمسات من الإبداع وبصمات من التميز على كل عمل أو مشروع، والاهتمام بأدق التفاصيل حيث التعامل مع النفوس البشرية يساعد على فهم تصرفاتهم وملاحظة سلوكهم، بل ومعرفة معدنهم سواءً كان ثميناً أو رديئاً واختيار الصديق المناسب أو شريك الحياة المناسب يجب أن يدور حول هذا المعنى (التفاصيل الصغيرة)، والأشخاص الذين يهتمون بأدق التفاصيل تجدهم من أكثر الناس إبداعاً وقدرةً على الإنجاز والتفكير وتجدهم أبعد الناس عن الاخفاق والفشل!
وتكمن أهمية هذه اللوحة في أننا نستطيع من خلال استخدامها على أن نبني أي دائرة كهربائية صغرت أم كبرت، بسيطة كانت أو معقدة!ولكن السؤال الذي ربما يدور الآن بخلد القارئ: ما علاقة هذه اللوحة الكهربائية بموضوع الحلقة: (الدقة والتفاصيل وأهميتهما في الحياة) في الواقع يجب على الطالب حين تركيبه لأي دائرة كهربائية أن يكون دقيقاً وحذراً جداً وأن يضع السلك المناسب في الحفرة المناسبة وفق ترتيب معين، وأن يضع القطعة الكهربائية المناسبة حسب الرسم التخطيطي لها وإلا فإن الدائرة لن تعمل أبداً، فتركيب الدائرة الكهربائية على هذه اللوحة البيضاء أشبه ما يكون بإجراء عملية جراحية حيث يجب على الطبيب الجراح أن يعرف أين يضع المخدر أو المعقم، وعليه أن يعرف الجزء الذي يحتاج إلى استئصال أو جراحة بشكل دقيق جداً وكذلك فإن عليه أن ينتبه لحركة يده أثناء إجراء العملية وإلا فإن النتائج قد لا يحمد عقباها أبداً، وكذلك الحال ينطبق أيضاً على طالب الهندسة الكهربائية أثناء وجوده في المختبر فعليه أن يمسك القطع الإليكترونية الصغيرة بشكل حذر حتى لا تتعرض للكسر ثم يجب عليه أن يضعها في الفتحات بشكل صحيح ودقيق، وبعد ذلك عليه أن يقوم بتوصيل هذه القطع ببعضها بشكل منطقي ومتناسق حتى تتكون دائرة كهربائية كاملة، وفي نهاية المطاف عليه أن يقوم بتوصيل التيار الكهربائي لهذه الدائرة ليقوم بتغذيتها وعليه أن يكون حذراً جداً فلا يعكس الطرف الموجب مع الطرف السالب ولا أن يضع أسلاك التيار في مكان غير مكانها أو يزيد من قوة التيار فقد يسبب هذا حرقاً أو تلفاً للقطع الإلكترونية.
أتذكر في مشروع مادة أنظمة التحكم (الكنترول سيستيمز)، أنني قمت باختيار مشروع أستطيع من خلاله من صنع مروحة أقوم بالتحكم في سرعتها عن طريق المقاومة، والمشروع هذا يعتبر نوعا ما معقداً من ناحية كثرة القطع الاليكترونية التي يجب استخدامها وتركيبها وتوصيلها مع بعضها، والشاهد في الموضوع أن أي خطأ في تركيب الدائرة حتى ولو كان هذا الخطأ صغير جداً فإنه سيمنع المروحة من العمل، والذي حدث أنني قمت بتوصيل الدائرة الكهربائية بشكل كامل ولكنها لم تعمل! وبعد محاولات كثيرة في البحث عن الخطأ تبين لي أن الريكتيفايار (وهو أحد القطع الإليكترونية) قد كان معكوساً.
ما ذكرته بالأعلى هو مثال واحد فقط وهناك عشرات الأمثلة التي تشير إلى أهمية تحري الدقة والاهتمام بالتفاصيل، وحتى لا أطيل في سرد الأمثلة أود أن أشير إلى أننا في تخصص الهندسة الكهربائية نتعلم العديد من برامج الكمبيوتر التي تتعلق بالتخصص مثلاً: (إي تاب، لاب فيو، مولتيسيم، بي سبايس، مات لاب ….. ) وكذلك فإننا نتعلم مبادئ البرمجة مثل: لغة السي بلاس بلاس، والاسيمبيلي لانجويج، والبرمجة بشكل خاص يجب فيها تحري الدقة والتسلسل المنطقي فأحيانا يقوم الطالب في مادة (المايكروبروسيسور) بكتابة برنامج يزيد عن 30 سطراً وذلك لأجل تشغيل مروحة أو ضوء أو صوت أو غير ذلك، ولكنه حينما ينسى أن يضع فاصلة أو نقطة واحدة فقط فإن النتيجة تكون البرنامج لا يعمل! وعلى الطالب اكتشاف الخطأ وإصلاحه بنفسه.
وفي النهاية أحب أن أؤكد مرة أخرى على أهمية التفاصيل الصغيرة والاهتمام بها فحياتنا كلها هي عبارة عن مجموعة كبيرة من التفاصيل التي تجمعت وتشكلت في قالب واحد، فمن خلالها تشكلت قناعاتنا ومواقفنا ونظرتنا للحياة فالاهتمام بتفاصيل الأمور يؤدي إلى بناءٍ قويم وأساس متين من الأفكار والقناعات والتصرفات، وإهمال هذه التفاصيل يؤدي في نهاية المطاف إلى بناء شخصية هشة ذات مواقف رمادية، وقناعات متضاربة، وأفكار متذبذبة!
فحياتك هي مجموعة كبيرة من التفاصيل الدقيقة، فاهتم بها وفصلها كما يريد ربك ودينك وضميرك.
واعلم أن بعض الأخطاء قد يكون قاتلاً ويصعب جبره،لذا فلنهتم بالتفاصيل.
