على الرغم من أهمية الاتصالات اللاسلكية كتقنية و ضرورتها كبنية تحتية، وعلى الرغم من ضخامة سوقها عالمياً، فهي تعاني كساداً إبتكارياً؛ وتيرة الإبتكار في مجال الاتصالات تعتبر بطيئة نسبياً إذا ما قورنت بوتيرة الإبتكار في مجالات تقنية أخرى، دورة تطوير وإطلاق جيل من الاتصالات اللاسلكية كالانتقال من الجيل الثالث 3G الى الرابع 4G أو الرابع 4G الى الخامس 5G تستغرق من ٨-١٢ عاماً، و جزء كبير من هذا الوقت يصرف على آلية تحويل الأفكار الإبتكارية أو النوعية في الجيل الجديد لمنتج قابل للتطبيق على أرض الواقع.
أين تكمن المشكلة؟
الشبكات اللاسلكية عادة تتكون من جزئين رئيسيين:
- شبكة النفاذ الراديوي،
- والشبكة المركزية.
الأولى هي محور الحديث لهذه المقالة، ولذلك سنركز عليها هنا، ونرجئ الحديث عن الشبكة المركزية لمقال آخر بإذن الله.
تعتبر شبكة النفاذ الجزء الأضخم حجماً وتكلفةً، حيث تمتد على كامل المساحة الجغرافية التي تغطيها الشبكة اللاسلكية، وتشكل تقريباً ٧٠% من إجمالي تكلفتها. يقع على عاتقها مسؤولية تشغيل أبراج الاتصالات اللاسلكية وإدارة مواردها الراديوية (مثل إدارة الترددات). معمارية شبكة النفاذ بشكلها الحالي صعبة التصميم و صناعتها مكلفة جداً؛ فهي وحدة متصلة من الوظائف المعقدة، والتي تتطلب فريقاً ضخماً ومتنوعاً من المهندسين، ما بين مهندسي الكترونيات و مهندسي اتصالات و مهندسي هوائيات ومهندسي شبكات و مبرمجين و مصممي معمارية. ولذلك فصناعة شبكة النفاذ شبه محتكرة لمجموعة صغيرة من المصنعين حول العالم -راجع الرسم التوضيحي رقم ١. ولذلك يكاد يكون هناك إتفاق بين كبار المشغلين العالميين لشبكات الاتصالات مثل AT&T و Vodafone و Deutsche Telekom و NTT Docomo على أن معمارية شبكة النفاذ تشكل العائق الأساسي للابتكار في قطاع الاتصالات اللاسلكية.
ما الحل المقترح؟
ايماناً بأن تغيير طريقة تصميم و صناعة شبكة النفاذ هو المفتاح لتمكين الابتكار، تبنى كبار مشغلي الشبكات اللاسلكية العالميين فكرة تطوير معمارية جديدة لشبكة النفاذ الراديوي، اطلقوا عليها مصطلح “شبكة النفاذ الراديوي المفتوحة (Open RAN)، كما أنشأوا تحالفاً تحت مسمى O-RAN Aaliance، بهدف تطوير هذه المعمارية وتسريع وتيرة تبنيها. يرتكز التصميم الجديد للمعمارية على أربعة مبادئ رئيسية موضحة في الرسم رقم ٢، وهي: (١) “الفصل الوظيفي” والذي يفرق الشبكة لوحدات بنيوية أساسية، (٢) “افتراضية الوظائف” والذي يمكن من تبني البرمجيات القابلة للتشغيل على الحواسب الخادمة، (٣) “الواجهات المفتوحة” APIs بين الوحدات الأساسية و برمجياتها، (٤) “التحكم الذكي” والذي يعتمد على خوارزميات الذكاء الإصطناعي لإدارة وتشغيل الشبكة. تبني هذه المباديء مجتمعةً يعد سابقة في صناعة شبكات النفاذ وأساساً مُمَكِّناً للإبتكار في قطاع الاتصالات اللاسلكية.
هدف شبكة النفاذ المفتوحة والدرس المستفاد من صناعة الحاسب الآلي
المبادئ الأربعة التي تتبناها شبكة النفاذ المفتوحة تفتح قطاع صناعة شبكة النفاذ أمام الراغبين في دخول السوق؛ فصل الوظائف لوحدات بواجهات مفتوحة، يسمح بإيجاد شركات تتخصص في تصميم هذه الوحدات، دون الحاجة لبناء شبكة نفاذ كاملة، كما يعزز تبني إفتراضية الوظائف والتحكم الذكي من فرص المبرمجين والمطورين ومصممي أنظمة الحواسب الخادمة من دخول قطاع صناعة شبكة النفاذ، كل ما سبق ينتج عنه منظومة صناعية متنوعة و تنافسية والتي تمكن الإبتكار كما هو موضح في الرسم ٣.
تستلهم معمارية Open RAN تجربة قطاع صناعة الحاسب الآلي عندما تراهن على رفع وتيرة الإبتكار بتحفيز ورفع التنافسية، فصناعة الحاسب الآلي في فترة ماقبل الثمانينات الميلادية كانت محتكرة لشركات كبرى، تقوم بتصنيع أجهزة الحاسب من الألف الى الياء – من صناعة الدوائر المتكاملة ICs الي تطوير التطبيقات – مثل شركات IBM و Univac وغيرها. التغيير حدث في بداية الثمانينات تقريباً، حيث أصبحت صناعة الحاسب مجالاً خِصْباً للمنافسة، ظهرت فيه شركات جديدة تصمم اجهزة حاسب مثل Apple و HP و Dell وغيرها، و شركات مطورة لأنظمة تشغيل مثل Windows و RedHat، بالإضافة لشركات المعالجات المعروفة وقتها مثل Intel و AMD و Motorolla، هذا التنوع و المنافسة كان نتيجة لتبني مبادئ في تصميم الحاسب الالي مشابهة – لحد ما – لتلك التي تتبناها Open RAN، مما ساهم في خفض “حاجز الدخول” لقطاع صناعة الحاسب أمام شركات ناشئة ذات أفكار إبتكارية، والنتيجة هي ما نراه اليوم من هواتف ذكية و أجهزة لوحية وأجهزة حاسب خادمة ومحمولة.
بتعلم الدرس من قطاع صناعة الحاسب، و بتبني مبادئ تعزز المنافسة، تهدف معمارية Open RAN لتعزيز الإبتكار في صناعة شبكات النفاذ، والذي يمكن أن يُسْهِم في ثورة نوعية في قطاع صناعة شبكات الاتصالات اللاسلكية بشكل عام.